فصل: الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏35‏)‏

‏{‏وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كان كبر عليك إعراضهم‏}‏ أي عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الإيمان‏.‏ ‏}‏فإن استطعت‏}‏ قدرت ‏}‏أن تبتغي‏}‏ تطلب ‏}‏نفقا في الأرض‏}‏ أي سربا تخلص منه إلى مكان آخر، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه، ومنه المنافق‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏أو سلما‏}‏ معطوف عليه، أي سببا إلى السماء؛ وهذا تمثيل؛ لأن العلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع، وهو مذكر، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث العلم‏.‏ قال قتادة‏:‏ السلم الدرج‏.‏ الزجاج‏:‏ وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد‏.‏ ‏}‏فتأتيهم بآية‏}‏ عطف عليه أي ليؤمنوا فافعل؛ فأضمر الجواب لعلم السامع‏.‏ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون؛ كما أنه لا يستطيع هداهم‏.‏ ‏}‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏ أي لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه؛ بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أي لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن‏.‏ ‏}‏فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ أي من الذين أشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل؛ أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب له والمراد الأمة؛ فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏36 ‏:‏ 37 ‏)‏

‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون؛ قال معناه الحسن ومجاهد، وتم الكلام‏.‏ ثم قال‏{‏والموتى يبعثهم الله‏}‏ وهم الكفار؛ عن الحسن ومجاهد؛ أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة‏.‏ وقيل‏:‏ الموتى كل من مات‏.‏ ‏}‏يبعثهم الله‏}‏ أي للحساب؛ وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن الحسن‏:‏ هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه‏}‏ قال الحسن‏:‏ ‏(‏لولا‏)‏ ههنا بمعنى هلا؛ وقال الشاعر‏:‏

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

وكان هذا منهم نعتا بعد ظهور البراهين؛ وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب‏.‏ ‏}‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده؛ وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏)‏ أن الله قادر على إنزالها‏.‏ الزجاج‏:‏ طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما من دابة في الأرض‏}‏ وأصله الصفة؛ من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو‏.‏ ‏}‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ بخفض ‏}‏طائر‏}‏ عطفا على اللفظ‏.‏

وقرأ الحسن وعبدالله بن إسحاق ‏(‏ولا طائر‏)‏ بالرفع عطفا على الموضع، و‏(‏من‏)‏ زائدة، التقدير‏:‏ وما من دابة‏.‏ ‏}‏بجناحيه‏}‏ تأكيدا وإزالة للإبهام؛ فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر؛ تقول للرجل‏:‏ طر في حاجتي؛ أي أسرع؛ فذكر ‏(‏بجناحيه‏)‏ ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز‏.‏ وقيل‏:‏ إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل؛ فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و‏}‏ما يمسكهن إلا الله‏}‏النحل‏:‏ 79‏]‏‏.‏ والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي؛ ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقفت‏.‏ وطائر الإنسان عمله؛ وفي التنزيل ‏}‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏}‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏}‏إلا أمم أمثالكم‏}‏ أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به‏.‏ و‏(‏دابة‏)‏ تقع على جميع ما دب؛ وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه‏.‏ وقيل‏:‏ هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة؛ والمعنى‏:‏ وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها‏:‏ كوني ترابا‏.‏ وهذا اختيار الزجاج فإنه قال‏:‏ ‏(‏إلا أمم أمثالكم‏)‏ في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضا‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه؛ فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس؛ فهذا معنى المماثلة‏.‏ واستحسن الخطابي هذا وقال‏:‏ فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك‏.‏ وقال مجاهد في قوله عز وجل‏{‏إلا أمم أمثالكم‏}‏ قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون‏.‏ وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم؛ والصحيح ‏}‏إلا أمم أمثالكم‏}‏ في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله‏.‏ وقول سفيان أيضا حسن؛ فإنه تشبيه واقع في الوجود‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث‏.‏ وقيل‏:‏ أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب؛ قال الله تعالى‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏النحل‏:‏89‏]‏ وقال‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ وقال‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فأجمل في هذه الآية وآية ‏(‏النحل‏)‏ ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره، إما تفصيلا وإما تأصيلا؛ وقال‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏ أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء‏)‏‏.‏ ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة؛ وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم؛ وروي عن ابن عباس؛ قال ابن عباس في رواية‏:‏ حشر الدواب والطير موتها؛ وقال الضحاك؛ والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح؛ وفي التنزيل ‏}‏وإذا الوحوش حشرت‏}‏التكوير‏:‏ 5‏]‏ وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه‏:‏ يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول‏:‏ ‏(‏كوني ترابا‏)‏ فذلك قوله تعالى‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا‏}‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقال عطاء‏:‏ فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن‏:‏ الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف؛ فيقول الله تعالى لهن‏:‏ ‏(‏كن ترابا‏)‏ فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراب‏.‏ وقالت جماعة‏:‏ هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج؛ وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه؛ وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال‏:‏ حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود؛ قالوا‏:‏ فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء؛ قالوا‏:‏ ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به؛ وروي عن أبي ذر قال‏:‏ انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما‏)‏ وهذا نص، وقد زدناه بيانا في كتاب ‏(‏التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏39 ‏:‏ 41‏)‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم‏}‏ ابتداء وخبر، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم؛ فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون‏.‏ ‏}‏في الظلمات‏}‏ أي ظلمات الكفر‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون المعنى ‏(‏صم وبكم‏)‏ في الآخرة؛ فيكون حقيقة دون مجاز اللغة‏.‏ ‏}‏من يشأ الله يضلله‏}‏ دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله؛ ألا ترى أنه قال‏{‏ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏}‏ أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله‏.‏ وفيه إبطال لمذهب القدرية‏.‏ والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل أرأيتكم‏}‏ وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين، يلقي حركة الأولى على ما قبلها، ويأتي بالثانية بين بين‏.‏ وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا عند أهل العربية غلط عليه؛ لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان‏.‏ قال مكي‏:‏ وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا؛ لأن الرواية عنه أنه يمد الثانية، والمد لا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الأصول، والأصل أن تجعل الهمزة بين الهمزة المفتوحة والألف؛ وعليه كل من خفف الثانية غير ورش؛ وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لأن الأول حرف مد ولين، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني‏.‏ وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة ‏(‏أرأيتكم‏)‏ بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها، والأصل الهمز؛ لأن همزة الاستفهام دخلت على ‏(‏رأيت‏)‏ فالهمزة عين الفعل، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر والكسائي ‏(‏أريتكم‏)‏ بحذف الهمزة الثانية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا بعيد في العربية، وإنما يجوز في الشعر؛ والعرب تقول‏:‏ أرأيتك زيدا ما شأنه‏.‏ ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب، لا حظ لهما في الإعراب؛ وهو اختبار الزجاج‏.‏ ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما، والمعنى أرأيتم أنفسكم؛ فإذا كانت للخطاب - زائدة للتأكيد - كان ‏(‏إن‏)‏ من قوله ‏}‏إن أتاكم‏}‏ في موضع نصب على المفعول لرأيت، وإذا كان اسما في موضع نصب ‏(‏فإن‏)‏ في موضع المفعول الثاني؛ فالأول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين‏.‏ وقوله‏{‏أو أتتكم الساعة‏}‏ المعنى‏:‏ أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها‏.‏ ثم قال‏{‏أغير الله تدعون إن كنتم صادقين‏}‏ والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا؛ أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية‏؟‏ ‏!‏ وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏بل إياه تدعون‏}‏ ‏}‏بل‏}‏ إضراب عن الأول وإيجاب للثاني‏.‏ ‏}‏إياه‏}‏ نصب‏.‏ بـ ‏}‏تدعون‏}‏ ‏}‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏}‏ أي يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه‏.‏ ‏}‏وتنسون ما تشركون‏}‏ قيل‏:‏ عند نزول العذاب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى وتتركون‏.‏ قال النحاس‏:‏ مثل قوله‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي‏}‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏

 الآية ر قم ‏(‏ 42‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك‏}‏ الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إضمار؛ أي أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفيه إضمار آخر يدل عليه الظاهر؛ تقديره‏:‏ فكذبوا

فأخذناهم‏.‏ وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها؛ وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم‏.‏ ومعنى ‏}‏بالبأساء‏}‏ بالمصائب في الأموال ‏}‏والضراء‏}‏ في الأبدان؛ هذا قول الأكثر، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر؛ ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء ‏}‏لا يسأل عما يفعل‏}‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال، والضراء في الحمل على الأبدان بالجوع والعري بهذه الآية‏.‏

قلت‏:‏ هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها؛ هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها؛ فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة؛ وفى التنزيل‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا‏}‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وقال‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ ‏}‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏البقرة‏:‏172‏]‏ فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها؛ وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها وأباح لنا أكلها وشربها ألبانها والدفء بأصوافها - إلى غير ذلك مما امتن به - كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان، ونهى عن إضاعة المال ردا على الأغنياء الجهال‏.‏

قوله تعالى‏{‏لعلهم يتضرعون‏}‏ أي يدعون ويذلون، مأخوذ من الضراعة وهي الذلة؛ يقال‏:‏ ضر فهو ضارع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ‏(‏لولا‏)‏ تخصيص، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا؛ وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب‏.‏ ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع‏.‏ والدعاء مأمور ب حال الرخاء والشدة؛ قال الله تعالى‏{‏ادعوني استجب لكم‏}‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقال‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏}‏غافر‏:‏ 60‏]‏ أي دعائي ‏}‏سيدخلون جهنم داخرين‏}‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وهذا وعيد شديد‏.‏ ‏}‏ولكن قست قلوبهم‏}‏ أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية‏.‏ ‏}‏وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون‏}‏ أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ يقال‏:‏ لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن ‏(‏نسوا‏)‏ بمعنى تركوا ما ذكروا به، عن ابن عباس وابن جريج، وهو قول أبي علي؛ وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي، كما يقال‏:‏ تركه‏.‏ في النسي‏.‏ جواب آخر‏:‏ وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك؛ كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه‏.‏ ‏}‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك‏.‏ والتقدير عند أهل العربية‏:‏ فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم‏.‏ ‏}‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا‏}‏ معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم ‏}‏أخذناهم بغتة‏}‏ أي استأصلناهم وسطونا بهم‏.‏ و‏(‏بغتة‏)‏ معناه فجأة، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة؛ فإذا أخذ لإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الإمارة‏.‏ والله أعلم‏.‏ و‏(‏بغتة‏)‏ مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم؛ فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال‏{‏وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏الأعراف‏:‏ 183‏]‏ نعوذ بالله من سخطه ومكره‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ رحم الله عبدا تدبر هذه الآية ‏}‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة‏}‏‏.‏ وقال محمد بن النضر الحارثي‏:‏ أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة‏.‏ وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم‏)‏ ثم تلا ‏}‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ الآية كلها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه‏.‏ وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه‏.‏ وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا هم مبلسون‏}‏ المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال؛ قال العجاج‏:‏

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحير لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس؛ أبلس الرجل سكت، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة؛ ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ الدابر الآخر؛ يقال‏:‏ دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجيء‏.‏ وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود ‏(‏من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا‏)‏ أي في آخر الوقت؛ والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية‏.‏ قال قطرب‏:‏ يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا

ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور‏.‏

قوله تعالى‏{‏والحمد لله رب العالمين‏}‏ قيل‏:‏ على إهلاكهم وقيل‏:‏ تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه‏.‏ وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم؛ لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏:‏ 47 ‏)‏

‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ أي أذهب وانتزع‏.‏ ووحد ‏}‏سمعكم‏}‏ لأنه مصدر يدل على الجمع‏.‏ ‏}‏وختم‏}‏ أي طبع‏.‏ وجواب ‏(‏إن‏)‏ محذوف تقديره‏:‏ فمن يأتيكم به، وموضعه نصب؛ لأنها في موضع الحال، كقولك‏:‏ اضربه إن خرج أي خارجا‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح، وقد يذهب الله الجوارح والأعراض جميعا فلا يبقي شيئا، قال الله تعالى‏{‏من قبل أن نطمس وجوها‏}‏النساء‏:‏ 47‏]‏ والآية احتجاج على الكفار‏.‏ ‏}‏من إله غير الله يأتيكم به‏}‏ ‏}‏من‏}‏ رفع بالابتداء وخبرها ‏}‏إله‏}‏ و‏}‏غيره‏}‏ صفة له، وكذلك ‏}‏يأتيكم‏}‏ موضعه رفع بأنه صفة ‏}‏إله‏}‏ ومخرجها مخرج الاستفهام، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم‏.‏ ومعنى ‏}‏أرأيتم‏}‏ علمتم؛ ووحد الضمير في ‏(‏به‏)‏ - وقد تقدم الذكر بالجمع - لأن المعنى أي بالمأخوذ، فالهاء راجعة إلى المذكور‏.‏ وقيل‏:‏ على السمع بالتصريح؛ مثل قوله‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏التوبة‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ودخلت الأبصار والقلوب بدلالة التضمين‏.‏ وقيل‏{‏من إله غير الله يأتيكم‏}‏‏.‏ بأحد هذه المذكورات‏.‏ وقيل‏:‏ على الهدى الذي تضمنه المعنى‏.‏

وقرأ عبدالرحمن الأعرج ‏(‏به انظر‏)‏ بضم الهاء على الأصل؛ لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول‏:‏ جئت معه‏.‏ قال النقاش‏:‏ في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية، وقد مضى هذا في أول ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى‏.‏ وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات؛ من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك‏.‏ ‏}‏ثم هم يصدفون‏}‏ أي يعرضون‏.‏ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي؛ يقال‏:‏ صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف‏.‏ وصادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته؛ قال ابن الرقاع‏:‏

إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف

والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي؛ فهم يصدفون أي مائلون معرضون عن الحجج والدلالات‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة‏}‏ الحسن‏{‏بغتة‏}‏ ليلا ‏}‏أو جهرة‏}‏ نهارا‏.‏ وقيل‏:‏ بغتة فجأة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏هل يهلك إلا القوم الظالمون‏}‏ نظيره ‏}‏فهل يهلك إلا القوم الفاسقون‏}‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ أي هل يهلك إلا أنتم لشرككم؛ والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه‏{‏يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم‏}‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين‏}‏ أي بالترغيب والترهيب‏.‏ قال الحسن‏:‏ مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة؛ يدل على ذلك قوله تعالى‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ومعنى ‏(‏منذرين‏)‏ مخوفين عقاب الله؛ فالمعنى‏:‏ إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم‏.‏ وقوله‏{‏فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏ تقدم القول فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي بالقرآن والمعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ بمحمد عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏}‏يمسهم العذاب‏}‏ أي يصيبهم ‏}‏بما كانوا يفسقون‏}‏ أي يكفرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ هذا جواب لقولهم‏{‏لولا نزل عليه آية من ربه‏}‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ ، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به‏.‏ والخزانة ما يخزن فيه الشيء؛ ومنه الحديث ‏(‏فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته‏)‏‏.‏ وخزائن الله مقدوراته؛ أي لا أملك أن أفعل كل ما أريد مما تقترحون ‏}‏ولا أعلم الغيب‏}‏ أيضا ‏}‏ولا أقول لكم إني ملك‏}‏ وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر‏.‏ واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ القول فيه فتأمله هناك‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي‏.‏ والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏}‏الأعراف‏}‏ وجواز اجتهاد الأنبياء في ‏(‏الأنبياء‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير‏}‏ أي الكافر والمؤمن؛ عن مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الجاهل والعالم‏.‏ ‏}‏أفلا تتفكرون‏}‏ أنهما لا يستويان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأنذر به‏}‏ أي بالقرآن‏.‏ والإنذار الإعلام وقيل‏{‏به‏}‏ أي بالله‏.‏ وقيل‏:‏ باليوم الآخر‏.‏ وخص ‏}‏الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم‏}‏ لأن الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر؛ فالمعنى ‏}‏يخافون‏}‏ يتوقعون عذاب الحشر‏.‏ وقيل‏{‏يخافون‏}‏ يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المراد المؤمنون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر‏.‏ وقيل‏:‏ الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة‏.‏ والأول أظهر‏.‏ ‏}‏ليس لهم من دونه‏}‏ أي من غير الله ‏}‏شفيع‏}‏ هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار‏.‏ ومن قال الآية في المؤمنين قال‏:‏ شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن؛ وفي التنزيل‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏ ‏}‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏}‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏البقرة‏:‏255‏]‏‏.‏ ‏}‏لعلهم يتقون‏}‏ أي في المستقبل وهو الثبات على الإيمان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ الآية‏.‏ قال المشركون‏:‏ ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء - يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا - فاطردهم عنك؛ وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا عليا ليكتب؛ فقام الفقراء وجلسوا ناحية؛ فأنزل الله الآية‏.‏ ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح‏:‏ فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع؛ وسيأتي ذكره‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد‏.‏ روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا؛ قال‏:‏ وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل ‏}‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن‏.‏ وقيل‏:‏ الذكر وقراءة القرآن‏.‏ ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره؛ ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق‏.‏ ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة‏.‏ ‏}‏يريدون وجهه‏}‏ أي طاعته، والإخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره‏.‏ وقيل‏:‏ يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏ وهو كقوله‏{‏والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم‏}‏الرعد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وخص الغداة والعشي بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم‏}‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ ، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجة في سننه عن خباب في قول الله عز وجل‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ إلى قوله‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ قال‏:‏ جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم؛ فأتوه فخلوا به وقالوا‏:‏ إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت؛ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قالوا‏:‏ فاكتب لنا عليك كتابا؛ قال‏:‏ فدعا بصحيفة ودعا عليا - رضي الله عنه - ليكتب ونحن قعود في ناحية؛ فنزل جبريل عليه السلام فقال‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين‏}‏ ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن؛ فقال‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ ثم قال‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ قال‏:‏ فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا؛ فأنزل الله عز وجل ‏}‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ ولا تجالس الأشراف ‏}‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏}‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ يعني عيينة والأقرع، ‏}‏واتبع هواه وكان أمره فرطا‏}‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ ، أي هلاكا‏.‏ قال‏:‏ أمر عيينة والأقرع؛ ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا‏.‏ قال خباب‏:‏ فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم؛ رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد الأزدي وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود عن خباب؛ وأخرجه أيضا عن سعد قال‏:‏ نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال؛ قال‏:‏ قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فاطردهم، قال‏:‏ فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل؛ فأنزل الله عز وجل‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ الآية‏.‏ وقرئ ‏(‏بالغدوة‏)‏ وسيأتي بيانه في ‏(‏الكهف‏)‏ إن شاء الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء‏}‏ أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره‏.‏ ‏(‏من‏)‏ الأولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد‏.‏ وكذا ‏}‏وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ المعنى وإذا كان الأمر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل؛ فإن فعلت كنت ظالما‏.‏ وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام؛ وهذا مثل قوله‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله‏.‏ ‏}‏فتطردهم‏}‏ جواب النفي‏.‏ ‏}‏فتكون من الظالمين‏}‏ نصب بالفاء في جواب النهي؛ المعنى‏:‏ ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شيء فتطردهم، على التقديم والتأخير‏.‏ والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه‏.‏ وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض‏}‏ أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء‏.‏ والفتنة الاختبار؛ أي عاملناهم معاملة المختبرين‏.‏ ‏}‏ليقولوا‏}‏ نصب بلام كي، يعني الأشراف والأغنياء‏.‏ ‏}‏أهؤلاء‏}‏ يعني الضعفاء والفقراء‏.‏ ‏}‏من الله عليهم من بيننا‏}‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من المشكل؛ لأنه يقال‏:‏ كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية‏؟‏ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم‏.‏ وفي هذا جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار ‏}‏أهؤلاء من الله عليهم من بيننا‏}‏ والجواب الآخر‏:‏ أنهم لما اختبروا بهذا قال عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ‏}‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ فيمن عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم‏{‏أهؤلاء من الله عليهم من بيننا‏}‏ وقل‏:‏ المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم‏}‏ السلام والسلامة بمعنى واحد‏.‏ ومعنى ‏}‏سلام عليكم‏}‏ سلمكم الله في دينكم وأنفسكم؛ نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام‏)‏ فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام؛ وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا‏:‏ والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ قال‏:‏ فقال أبو بكر‏:‏ أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم‏؟‏‏!‏ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك‏)‏ فأتاهم أبو بكر فقال‏:‏ يا إخوتاه أغضبتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا؛ يغفر الله لك يا أخي؛ فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية‏.‏ ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم؛ فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم‏.‏ وقال الفضيل بن عياض‏:‏ جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم؛ فنزلت الآية‏.‏ وروي عن أنس بن مالك مثله سواء‏.‏

قوله تعالى‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏ أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ كتب ذلك في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏}‏أنه من عمل منكم سوءا بجهالة‏}‏ أي خطيئة من غير قصد؛ قال مجاهد‏:‏ لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل؛ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏النساء‏}‏ وقيل‏:‏ من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل‏.‏ ‏}‏فإنه غفور رحيم‏}‏ قرأ بفتح ‏}‏أن‏}‏ من ‏}‏فأنه‏}‏ ابن عامر وعاصم، وكذلك ‏}‏أنه من عمل‏}‏ ووافقهما نافع في ‏}‏أنه من عمل‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر فيهما؛ فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة؛ و‏(‏إن‏)‏ إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك‏.‏ ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها ‏(‏كتب‏)‏ كأنه قال‏:‏ كتب ربكم على نفسه أنه من عمل؛ وأما ‏(‏فأنه غفور‏)‏ بالفتح ففيه وجهان؛ أحدهما‏:‏ أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال‏:‏ فله أنه غفور رحيم؛ لأن ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن يضمر مبتدأ تكون ‏(‏أن‏)‏ وما عملت فيه خبره؛ تقديره‏:‏ فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏(‏كتب‏)‏ عمل فيها؛ أي كتب ربكم أنه غفور رحيم‏.‏ وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم‏.‏ ومن فتح الأولى - وهو نافع - جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك نفصل الآيات‏}‏ التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني؛ والمعنى‏:‏ وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل‏.‏ وقال القتبي‏{‏نفصل الآيات‏}‏ نأتي بها شيئا بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة‏.‏ ‏}‏ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ يقال‏:‏ هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به‏؟‏ فقال الكوفيون‏:‏ هو مقدر؛ أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين؛ قال النحاس‏:‏ وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير‏:‏ وكذلك نفصل الآيات فصلناها‏.‏ وقيل‏:‏ إن دخول الواو للعطف على المعنى؛ أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء‏.‏ ‏(‏سبيل‏)‏ برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد كان النبي عليه السلام يستبينها‏؟‏ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لأمته؛ فالمعنى‏:‏ ولتستبينوا سبيل المجرمين‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلم لم يذكر سبيل المؤمنين‏؟‏ ففي هذا جوابان؛ أحدهما‏:‏ أن يكون مثل قوله‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏النحل‏:‏ 81‏]‏ فالمعنى؛ وتقيكم البرد ثم حذف؛ وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف‏.‏ والجواب الآخر‏:‏ أن يقال‏:‏ استبان الشيء واستبنته؛ وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين‏.‏ والسبيل يذكر ويؤنث؛ فتميم تذكره، وأهل الحجاز تؤنثه؛ وفي التنزيل ‏}‏وإن يروا سبيل الرشد‏}‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏ مذكر ‏}‏لم تصدون عن سبيل الله‏}‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏ مؤنث؛ وكذلك قرئ ‏(‏ولتستبين‏)‏ بالياء والتاء؛ فالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله‏}‏ قيل‏{‏تدعون‏}‏ بمعنى تعبدون‏.‏ وقيل‏:‏ تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة؛ أراد بذلك الأصنام‏.‏ ‏}‏قل لا أتبع أهواءكم‏}‏ فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده‏.‏ ‏}‏قد ضللت إذا‏}‏ أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم‏.‏ ‏}‏وما أنا من المهتدين‏}‏ أي على طريق رشد وهدى‏.‏

وقرئ ‏}‏ضللت‏}‏ بفتح اللام وكسرها وهما لغتان‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى‏{‏قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي‏}‏سبأ‏:‏ 50‏]‏ فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون‏:‏ ضللت بالكسر أضل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل إني على بينة من ربي‏}‏ أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى؛ ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره‏.‏ ‏}‏وكذبتم به‏}‏ أي بالبينة لأنها في معنى البيان، كما قال‏{‏وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه‏}‏النساء‏:‏ 8‏]‏ على ما بيناه هناك‏.‏ وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره‏.‏ وقيل‏:‏ بالعذاب‏.‏ وقيل‏:‏ بالقرآن‏.‏ وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبدالله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه‏:‏

أأقعد بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

أجادل كل معترض خصيم وأجعل دينه غرضا لديني

فاترك ما علمت لرأي غيري وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة وهي شيء يصرف في الشمال وفي اليمين

وقد سنت لنا سنن قوام يلحن بكل فج أو وجين

وكان الحق ليس به خفاء أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني

قوله تعالى‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ أي العذاب؛ فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا‏}‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ ‏}‏وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ ما عندي من الآيات التي تقترحونها‏.‏ ‏}‏إن الحكم إلا لله‏}‏ أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله‏.‏ ‏}‏يقص الحق‏}‏ أي يقص القصص الحق؛ وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس؛ قال ابن عباس‏:‏ قال الله عز وجل‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والباقون ‏}‏يَقْضِ الحقَّ‏}‏ بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبدالرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء؛ ودل على ذلك أن بعده ‏}‏وهو خير الفاصلين‏}‏ والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود ‏(‏إن الحكم إلا لله يقضي بالحق‏)‏ فدخول الباء يؤكد معنى القضاء‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا لا يلزم؛ لأن معنى ‏}‏يقضي‏}‏ يأتي ويصنع فالمعنى‏:‏ يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يقضي القضاء الحق‏.‏ قال مكي‏:‏ وقراءة الصاد أحب إلي؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لو أن عندي ما تستعجلون به‏}‏ أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره‏.‏ والاستعجال‏:‏ تعجيل طلب الشيء قبل وقته‏.‏ ‏}‏والله أعلم بالظالمين‏}‏ أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏

جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت معها اثنا عشر ألف ملك‏.‏ وروي البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مفاتح الغيب خمس لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏النمل‏:‏ 65‏]‏‏.‏ ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة‏.‏ يقال‏:‏ مفتاح ويجمع مفاتيح‏.‏ وهي قراءة ابن السميقع ‏}‏مفاتيح‏}‏‏.‏ والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر وروى ابن ماجة في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه‏)‏‏.‏ وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان؛ ولذلك قال بعضهم‏:‏ هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا؛ أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به‏.‏ فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه‏.‏ ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله؛ بدليل قوله تعالى‏{‏وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء‏}‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏ وقال‏{‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول‏}‏الجن‏:‏ 26 - 27‏]‏‏.‏ الآية وقيل‏:‏ المراد بالمفاتح خزائن الرزق؛ عن السدي والحسن‏.‏ مقاتل والضحاك‏:‏ خزائن الأرض‏.‏ وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به‏.‏ وقيل‏:‏ غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها‏.‏ وقيل‏:‏ عواقب الأعمار وخواتم الأعمال؛ إلى غير هذا من الأقوال‏.‏ والأول المختار‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده‏.‏ فمن قال‏:‏ إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا‏.‏ وكذلك من قال‏:‏ إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر؛ فإن لم يجزم وقال‏:‏ إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر؛ إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب‏)‏ على ما يأتي بيانه في ‏}‏الواقعة‏}‏ إن شاء الله‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وكذلك قول الطبيب‏:‏ إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى؛ وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق‏.‏ وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر‏.‏ أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا‏.‏ فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا‏:‏ يؤدب ولا يسجن‏.‏ أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا‏:‏ إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله‏{‏والقمر قدرناه منازل‏}‏يس‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره؛ فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا الباب أيضا ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أتى عرافا فسأل عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة‏)‏‏.‏ والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب‏.‏ وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها‏.‏ وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك‏.‏ وهذا الفن هو العيافة ‏(‏بالياء‏)‏‏.‏ وكذا ينطلق عليها اسم الكهانة؛ قاله القاضي عياض‏.‏ والكهانة‏:‏ ادعاء علم الغيب‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب ‏(‏الكافي‏)‏‏:‏ من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية؛ فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد أنخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال‏.‏ وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لم تقبل له صلاة أربعين ليلة‏)‏‏.‏ فكيف بمن أتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم‏.‏ روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال‏:‏ ‏(‏إنهم ليسوا بشيء‏)‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة‏)‏‏.‏ قال الحميدي‏:‏ ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم‏)‏‏.‏ وسيأتي هذا المعنى في ‏}‏سبأ‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويعلم ما في البر والبحر‏}‏ خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر‏.‏ ويقال‏:‏ يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها ‏}‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها‏}‏ روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان‏)‏ وذلك قوله في محكم كتابه‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏ وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏وما تسقط من ورقة‏}‏ أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، ‏}‏وظلمات الأرض‏}‏ بطونها وهذا أصح؛ فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية‏.‏ والله الموفق للهداية‏.‏ وقيل‏{‏في ظلمات الأرض‏}‏ يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة‏.‏ ‏}‏ولا رطب ولا يابس‏}‏ بالخفض عطفا على اللفظ‏.‏ وقرأ ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع ‏}‏من ورق‏}‏؛ فـ ‏}‏ من‏}‏ على هذا للتوكيد ‏}‏إلا في كتاب مبين‏}‏ أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل‏}‏ أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت‏.‏ والتوفي استيفاء الشيء‏.‏ وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة‏.‏ والوفاة الموت‏.‏ وأوفيتك المال، وتوفيته، واستوفيته إذا أخذته أجمع‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن بني الأدرد ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد

ويقال‏:‏ إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة؛ ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس‏.‏ وقال بعضهم‏.‏ لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى‏.‏ وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم‏.‏ ‏}‏ثم يبعثكم فيه‏}‏ أي في النهار؛ ويعني اليقظة‏.‏ ‏}‏ليقضى أجل مسمى‏}‏ أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له‏.‏ وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف ‏}‏ليقضي أجلا مسمى‏}‏ أي عنده‏.‏ ‏}‏جرحتم‏}‏ كسبتم، وقد تقدم في ‏(‏المائدة‏)‏‏.‏ وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه؛ فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار‏.‏ وقال ابن جريج ‏}‏ثم يبعثكم فيه‏}‏ أي في المنام‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم‏.‏ وقد دل على الحشر والنشر بالبعث؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة‏.‏ ‏}‏ويرسل عليكم حفظة‏}‏ أي من الملائكة‏.‏ والإرسال حقيقته إطلاق الشيء بما حمل من الرسالة؛ فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال‏{‏وإن عليكم لحافظين‏}‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏ أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات‏.‏ والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب‏.‏ ويقال‏:‏ إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، إذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله؛ لقوله تعالى‏{‏عن اليمين وعن الشمال قعيد‏}‏ق‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ لكل إنسان خمسة من الملائكة‏:‏ اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏

ومن الناس من يعيش شقيا جاهل القلب غافل اليقظه

فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظه

إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظه

قوله تعالى‏{‏حتى إذا جاء أحدكم الموت‏}‏ يريد أسبابه؛ كما تقدم في سورة ‏(‏البقرة‏)‏‏.‏ ‏}‏توفته رسلنا‏}‏ على تأنيث الجماعة؛ كما قال‏{‏ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات‏}‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ و‏}‏كذبت رسل‏}‏فاطر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقرأ حمزة ‏}‏توفاه رسلنا‏}‏ على تذكير الجمع‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏تتوفاه رسلنا‏}‏ بزيادة تاء والتذكير‏.‏ والمراد أعوان ملك الموت؛ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا‏.‏ ويقال‏:‏ معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب؛ فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين‏.‏ والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت؛ كما قال‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت‏}‏السجدة‏:‏ 11‏]‏ وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك؛ كما في هذه الآية وغيرها‏.‏ وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة؛ كما قال‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ ‏}‏قل الله يحييكم ثم يميتكم‏}‏الجاثية‏:‏ 26‏]‏ ‏}‏الذي خلق الموت والحياة‏}‏الملك‏:‏ 2‏]‏ فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به‏.‏ ‏}‏وهم لا يفرطون‏}‏ أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله‏.‏ وأصله من التقدم، كما تقدم‏.‏ فمعنى فرط قدم العجز‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لا يتوانون‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير ‏}‏لا يفرطون‏}‏ بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم ردوا إلى الله‏}‏ أي ردهم الله بالبعث للحساب‏.‏ ‏}‏مولاهم الحق‏}‏ أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم‏.‏ ‏}‏الحق‏}‏ بالخفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏الحق‏}‏ بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا‏.‏ ‏}‏ألا له الحكم‏}‏ أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل‏.‏ ‏}‏وهو أسرع الحاسبين‏}‏ أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر‏}‏ أي شدائدهما؛ يقال‏:‏ يوم مظلم أي شديد‏.‏ قال النحاس‏:‏ والعرب تقول‏:‏ يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت‏:‏ يوم ذو كواكب؛ وأنشد سيبويه‏:‏

بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

وجمع ‏}‏الظلمات‏}‏ على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه ‏}‏لئن أنجانا من هذه‏}‏ أي من هذه الشدائد ‏}‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ أي من الطائعين‏.‏ فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حال الرخاء غيره بقوله‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏وخيفة‏}‏ من الخوف، وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏}‏خفية‏}‏ بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان‏.‏ وزاد الفراء خفوة وخفوة‏.‏ قال‏:‏ ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة‏.‏ وقراءة الأعمش بعيدة؛ لأن معنى ‏}‏تضرعا‏}‏ أن تظهروا التذلل و‏}‏خفية‏}‏ أن تبطنوا مثل ذلك‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏لئن أنجانا‏}‏ واتساق المعنى بالتاء؛ كما قرأ أهل المدينة وأهل الشأم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب‏}‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏ينجيكم‏}‏ بالتشديد، الباقون بالتخفيف‏.‏ قيل‏:‏ معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته‏.‏ وقيل‏:‏ التشديد للتكثير‏.‏ والكرب‏:‏ الغم يأخذ بالنفس؛ يقال منه‏:‏ رجل مكروب‏.‏ قال عنترة‏:‏

ومكروب كشفت الكرب عنه بطعنة فيصل لما دعاني

والكربة مشتقة من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏ تقريع وتوبيخ؛ مثل قوله في أول السورة ‏}‏ثم أنتم تمترون‏}‏‏.‏ لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك؛ فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا‏}‏ أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم‏.‏ ومعنى ‏}‏من فوقكم‏}‏ الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح؛ عن مجاهد وابن جبير وغيرهما‏.‏ ‏}‏أو من تحت أرجلكم‏}‏ الخسف والرجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين‏.‏ وقيل‏{‏من فوقكم‏}‏ يعني الأمراء الظلمة، ‏}‏ومن تحت أرجلكم‏}‏ يعني السفلة وعبيد السوء؛ عن ابن عباس ومجاهد أيضا‏.‏ ‏}‏أو يلبسكم شيعا‏}‏ وروي عن أبي عبدالله المدني ‏}‏أو يلبسكم‏}‏ بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس‏.‏ وهو موضع مشكل والأعراب يبينه‏.‏ أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر؛ كما قال‏{‏وإذا كالوهم أو وزنوهم‏}‏المطففين‏:‏ 3‏]‏ وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء؛ عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏يلبسكم شيعا‏}‏ بقوي عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم‏.‏ ‏}‏شيعا‏}‏ معناه فرقا‏.‏ وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا؛ وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم على طلب الدنيا‏.‏ وهو معنى قوله ‏}‏ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ أي بالحرب والقتل في الفتنة؛ عن مجاهد‏.‏ والآية عامة في المسلمين والكفار‏.‏ وقيل هي في الكفار خاصة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي في أهل الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ وهو الصحيح؛ فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض‏.‏ نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏ وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم‏.‏ روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال‏:‏ يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا‏)‏‏.‏ وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال‏:‏ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي‏!‏ لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها‏)‏‏.‏ وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب ‏(‏التذكرة‏)‏ والحمد لله‏.‏ وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ ‏(‏يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك‏)‏‏؟‏ فقال له جبريل‏:‏ ‏(‏إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك‏)‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال‏:‏ ‏(‏يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض‏)‏‏؟‏ فنزل جبريل بهذه الآية‏{‏الم‏.‏ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا‏}‏العنكبوت‏:‏ 1 - 2‏]‏ الآية‏.‏ وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏}‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجه الله‏}‏ فلما نزلت ‏}‏أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏هاتان أهون‏)‏‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح‏:‏ ويمسي اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة‏.‏ اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي‏.‏ اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي‏)‏‏.‏ قال وكيع‏:‏ يعني الخسف‏.‏

قوله تعالى‏{‏انظر كيف نصرف الآيات‏}‏ أي نبين لهم الحجج والدلالات‏.‏ ‏}‏لعلهم يفقهون‏}‏ يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذب به قومك‏}‏ أي بالقرآن‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏}‏وكذبت‏}‏‏.‏ بالتاء‏.‏ ‏}‏وهو الحق‏}‏ أي القصص الحق‏.‏ ‏}‏قل لست عليكم بوكيل‏}‏ قال الحسن‏:‏ لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت؛ نظيره ‏}‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏هود‏:‏ 86‏]‏ أي أحفظ عليكم أعمالكم‏.‏ ثم قيل‏:‏ هذا منسوخ بآية القتال‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لكل نبأ مستقر‏}‏ لكل خبر حقيقة، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر‏.‏ وقيل‏:‏ أي لكل عمل جزاء‏.‏ قال الحسن‏:‏ هذا وعيد من الله تعالى للكفار؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث‏.‏ الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا‏.‏ قال السدي‏:‏ استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب‏.‏ وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ بالتكذيب والرد والاستهزاء ‏}‏فأعرض عنهم‏}‏ والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه‏.‏ وهو صحيح؛ فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك؛ فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء‏.‏ والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الخلط‏.‏ وكل شيء خضته فقد خلطته؛ ومنه خاض الماء بالعسل خلط‏.‏ فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛ لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزؤون بالقرآن؛ فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر‏.‏ ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه‏.‏ وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ قال‏:‏ هم الذين يستهزؤون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام‏.‏ وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ هم الذين يقولون في القرآن غير الحق‏.‏

في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية‏.‏ وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا‏.‏ قال‏:‏ وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم لا مناظرتهم‏.‏ وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي‏:‏ أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال‏:‏ ولا نصف كلمة‏.‏ ومثله عن أيوب السختياني‏.‏ وقال الفضيل بن عياض‏:‏ من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له‏.‏ وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام‏)‏‏.‏ فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإما ينسينك‏}‏ ‏}‏إما‏}‏ شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم؛ كما قال‏:‏

إما يصبك عدو في مناوأة يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر

وقرأ ابن عباس وابن عامر ‏}‏ينسينك‏}‏ بتشديد السين على التكثير؛ يقال‏:‏ نسى وأنسى بمعنى واحد لغتان؛ قال الشاعر‏:‏

قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل

وقال امرؤ القيس‏:‏

تنسني إذا قمت سربالي

المعنى‏:‏ يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهي‏.‏ ‏}‏فلا تقعد بعد الذكرى‏}‏ أي إذا ذكرت فلا تقعد ‏}‏مع القوم الظالمين يعني المشركين‏.‏ والذكرى اسم للتذكير‏.‏

قيل‏:‏ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاص به، والنسيان جائز عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن قوله تعالى‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه‏.‏ قال عليه السلام؛ ‏(‏نسي آدم فنسيت ذريته‏)‏ خرجه الترمذي وصححه‏.‏ وقال مخبرا عن نفسه‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني‏)‏‏.‏ خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه‏.‏ وقال وقد سمع قراءة رجل‏:‏ ‏(‏لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها‏)‏‏.‏ واختلفوا بعد جواز النسيان عليه؛ هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا‏.‏‏؟‏ فذهب إلى الأول فيما ذكره القاضي عياض عامة العلماء والأئمة النظار؛ كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه‏.‏ ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي‏.‏ ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية؛ كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق‏.‏ وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا‏:‏ لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن‏.‏ ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه ‏(‏الأوسط‏)‏ وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد‏.‏